المحاضرة الأولى علم المناعة النفسي العصبي ( تعاریف، تاریخ وتطورات)
1- التعريف بعلم المناعة النفسية العصبية ( Psychoneuro-immunologie (PNI
من الناحية اللغوية يتكون لفظ Psychoneuro-immunologie من ثلاث مصطلحات Psycho و تعني النفس، و neuro و تعني الأعصاب، و immunologie التي تعني علم المناعة.أما من الناحية الاصطلاحية فإن هذا اللفظ ذاته يعلن عن الرابط بين الجوانب السيكولوجية والعصبية؛ بمعنى جهاز الغدد الصماء العصبي الذي يجمع بين الجهاز العصبي والأجهزة الهرمونية و جهاز المناعة .
ويعرف (Robert Dantzer) علم المناعة النفسية على أنه ذلك العلم الذي يتقاطع مع علم النفس Psychologie ، علوم الأعصاب Neurosciences و علم المناعة Immunologie بهدف وضع قواعد علمية للأمراض النفس جسدية ترتكز على الأعمال التجريبية الموضوعية
وهناك من يعرف علم المناعة النفسية العصبي بأنه ذلك العلم الذي يشتمل على الدراسات المتعددة التي تسمح بتناول التأثير السلبي للعامل النفسي كالحزن على سبيل المثال في وظيفة الجهاز المناعي.
في حين يعرفه آخرون على أنه مجال يبحث في علاقة التفاعل بين العقل والجسد والطب الذهني للجسد والذي يعرف بالطب السلوكي ، وهو عملية تأثير العقل على الشفاء وهو يدخل تقريبا في كل مجال طبي .
ويرى ( بدرة معتصم میموني ) أن علم المناعة النفسية العصبي علم حديث جدا و في تطور ، يحاول أن يفهم الميكانيزم : " كيف تؤثر الصدمات النفسية على الأنساق العصبية ومنها على جهاز المناعة ".
و بهذا يمكن القول بأن علم المناعة النفسية العصبي - وفقا للتعاريف السالفة الذكر - علم ناتج عن العلاقة الكامنة بين كل من علم النفس و علم المناعة وعلم الأعصاب ، وهو يهتم بتناول تأثير العوامل أو المثيرات السلبية كالحزن والأسى على الجهاز المناعي . غير أنه توجد العديد من الدراسات الحديثة التي تتناول تأثير العوامل أو المثيرات الإيجابية على الجهاز المناعي ، مثل الدراسات التي تتناول تأثير العلاجات النفسية على الجهاز المناعي أو تأثير الاسترخاء أو التخيل على الجهاز المناعي . وهي تدخل جميعها في مجال علم المناعة النفسية العصبي. لذا يمكن القول بأن علم المناعة النفسية العصبي هو ذلك العلم الذي يهتم بتأثير العوامل النفسية الإيجابية والسلبية منها على الجهاز المناعي.
2- نظرة موجزة لتاريخية تطور علم المناعة النفسية العصبية:
لقد تم اكتشاف هذا الجانب الذي يعرف بالمناعة النفسية العصبية قبل 37 عاما تقريبا. على يد ( Fichez et Clotz) اللذان قدما وصفا تفصيليا للآليات و العمليات الداخلة في مجال علم المناعة النفسية العصبية ، و لكنهما لم يدعواه بهذا اللفظ (علم المناعة النفسية العصبية) لأنهما حصرا جهودهما في وصف الهرم المبكر.ولعل أول بحث علمي تناول ظاهرة علم المناعة النفسية العصبية بشكل مجمل كان قد ظهر عام 1919، وذلك عندما نشر باحث ياباني يدعى ( إشيقامي Ishigami) لأول مرة نتائج بحثه عن السل بين أطفال المدارس؛ حيث لاحظ أن ظاهرة السل تتزامن لدى أطفال المدارس ومعلميهم مع ازدياد ما يتعرضون له من توترات انفعالية. و لقد عزا (إشيقامي) تفشي المرض بين الأطفال ومعلميهم إلى انخفاض كفاءة عمل جهاز المناعة.
و في عام 1974 مساعد رسم خريطة الجسم البيولوجية على اكتشاف تم في مختبر بكلية الطب بجامعة ( روشستر) ؛ فقد اكتشف العالم ( روبرت آدر Robert Ader) أن جهاز المناعة مثله مثل المخ يمكنه أن يتعلم، و لقد كان الشائع في الطب أن المخ والجهاز العصبي المركزي وحدهما اللذان يستجيبان للعنف و القسوة - أي المواقف الضاغطة- (حيدر: 2002). وقد أدى اكتشاف (أدر) إلى التوصل للطرق العدة التي يتصل بها الجهاز العصبي بالجهاز المناعي - أي المسارات البيولوجية التي تجعل المخ ، العواطف و الجسد متصلة دائما، بل متظافرة تظافرا وثيقا ، وقد قام في تجربته بوضع دواء يؤدي إلى تقليل كمية الخلايا التائية في طعام الفئران البيضاء ( و هذه الخلايا هي المسئولة عن مكافحة الأمراض في الدورة الدموية للفئران )، و في كل مرة كانت الفئران تأكل الدواء مخلوطا في ماء به مقدار معين من السكارين، لكن ( آدر) اكتشف أن الفئران عندما تأكل طعامها المخلوط بهذا المقدار من السكارين دون الدواء الذي يؤدي إلى انخفاض عدد الخلايا المناعية التائية في الدم تمرض وتموت.
لقد تعلم جهازها المناعي أن يكبح الخلايا التائية استجابة للسكارين، ولم يكن هذا ليحدث وفقا لأي تفسير علمي في ذلك الوقت. و قبل أن يتوصل ( أدر) إلى هذا الاكتشاف بالمصادفة كان علماء التشريح الطب والبيولوجية يعتقدون أن المخ و الجهاز المناعي كيانان منفصلان لا يؤثر أي منهما في الأخر. وبناء على ما سبق استنبط ( آدر) علما جديدا يدعي علم المناعة النفسية العصبية.
ومن جهة أخرى وجد فريق من الباحثين أن المواد الحاملة للرسائل التي تعمل بشكل واسع في كل من المخ و الجهاز المناعي تكون أكثر كثافة في المناطق العصبية التي تنضم الانفعالات. ليأتي بعد ذلك ( ديفيد فيلتن David Flten ) - أحد زملاء (آدر) - بأقوى الأدلة على وجود سبيل فيزيقي مباشر يسمح للعواطف بالتأثير في الجهاز المناعي؛ فقد لاحظ أن للعواطف تأثيرا قويا في الجهاز العصبي الذاتي الذي ينظم كل شيء بدءا من مقدار إفراز الأنسولين و حتی مستويات ضغط الدم، ليكتشف بعد ذلك مع زوجته (سوزان ) وبعض الزملاء نقطة التقاء يتحدث عندها الجهاز العصبي الذاتي حديثا مباشرا مع الخلايا اللمفاوية ، و الخلايا البلعمية وهي من خلايا جهاز المناعة ؛ إذ وجدوا في دراستهم بالميكروسكوب الإليكتروني نقاط اشتباك تتلاصق فيها نهايات أعصاب الجهاز اللاإرادي مباشرة بهذه الخلايا المناعية.
مضى ( ديفيد فيلتن) خطوة أبعد باختبار أهمية نهاية الأعصاب في عمل الجهاز المناعي عند التعرض للخوف والضغط؛ حيث أجرى تجارب على الحيوانات، أزال بعض أعصابها من اللمفاوية و الطحال، حيث تصنع وتخزن الخلايا العصبية ثم عرضها لصدمة خوف بعدها استخدم الفيروسات لإثارة الجهاز المناعي ، و كانت النتيجة انخفاضا هائلا في الاستجابة المناعية للفيروس، فاستنبط أن الجهاز المناعي من غير نهايات الأعصاب لا يستجيب كما يجب للفيروس عند تعرض الإنسان لضغوط وممارسات عدوانية.
و في سنة 1975 وجد ( بارتروب) من خلال دراسة أجراها على نساء أرامل أن الحرمان العاطفي أو الموت له أثر سلبي على جهاز المناعة و خاصة على الخلايا التائية منه .
وهكذا و بظهور هذا العلم الجديد ( PNI) كانت هناك عدة دراسات و تجارب حاولت أن تثبت تأثير الحالة النفسية - وبصفة خاصة المعاناة النفسية - على جهاز المناعة للكائن الحي.
وفي بداية الثمانينات اتسع مجال علم المناعة النفسية العصبية ليشتمل محاولات الباحثين الاكتشاف كيفية تحفيز و زيادة فعالية الجهاز المناعي في حالات محددة لقهر المرض. خاصة بعد ملاحظة الشفاء الغامض لبعض الحالات المرضية دون سبب واضح، إذ يقول (نورمان كوزين) - الذي استثارته هذه الظاهرة- أنه في بداية القرن العشرين قد حاول أن يجد كيف يمكن للجسم البشري أن يعالج نفسه و يشفيها سواء من جرح بليغ أو التهاب مفاصل أو اضطراب في المعدة أو نزلة برد و حتی من أمراض أخرى كالسرطان ولكنه وجد نفسه أمام طريق مسدود. ليظهر بعد ذلك كتاب (ستيفن لوك) و( جلاس كوليجان) تحت عنوان (The Healer Within) والذي يكشف فيه المؤلفان لأول مرة عن أهمية وتناغم العقل و الجسم لمقاومة المرض والتحديات الصحية الخطيرة التي تواجه الإنسان خاصة التعاون بين الجهاز العصبي و الجهاز المناعي في نظام علاج ذاتي غير مرئي للقضاء على الأمراض.
وقد قام العلماء في العصر الحديث باختبار طرق عدة كالتركيز، التنويم المغناطيسي، تفعيل الإرادة بالتصميم، التخيل، الاسترخاء والتأمل في محاولة لتقوية جهاز المناعة.
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لك